سورة البقرة - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


النقض رد ما أبرم على أوله غير مبرم، والعهد في هذه الآية التقدم في الشيء والوصاة به.
واختلف في تفسير هذا العهد: فقال بعض المتأولين: هو الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهر أبيهم آدم كالذر.
وقال آخرون: بل نصب الأدلة على وحدانية الله بالسماوات والأرض وسائر الصنعة هو بمنزلة العهد.
وقال آخرون: بل هذا العهد هو الذي أخذه الله على عباده بواسطة رسله أن يوحدوه وان لا يعبدوا غيره.
وقال آخرون: بل هذا العهد هو الذي أخذه الله تعالى على أتباع الرسل والكتب المنزلة أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن لا يكتموا أمره.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: فالآية على هذا في أهل الكتاب، وظاهر ما قبل وبعد أنه في جميع الكفار.
وقال قتادة: هذه الآية هي فيمن كان آمن بالنبي عليه السلام ثم كفر به فنقض العهد.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: لم ينسب الطبري شيئاً من هذه الأقوال، وكل عهد جائز بين المسلمين فنقضه لا يحل بهذه الآية، والضمير في {ميثاقه} يحتمل العودة على العهد أو على اسم الله تعالى، وميثاق مفعال من الوثاقة، وهي الشد في العقد والربط ونحوه، وهو في هذه الآية اسم في موضع المصدر كما قال عمرو بن شييم: [الوافر].
أكفراً بعد ردِّ الموتِ عنّي *** وبَعْدَ عَطَائك المائَةَ الرّتاعا
أراد بعد إعطائك.
وقوله تعالى: {ما أمر الله به أن يوصل}، {ما} في موضع نصب ب {يقطعون} واختلف الشيء الذي أمره بوصله؟
فقالت قتادة: الأرحام عامة في الناس وقال غيره: خاصة فيمن آمن بمحمد، كان الكفار يقطعون أرحامهم. وقال جمهور أهل العلم: الإشارة في هذه الآية إلى دين الله وعبادته في الأرض، وإقامة شرائعه، وحفظ حدوده.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو الحق، والرحم جزء من هذا، و{أن} في موضع نصب بدل من {ما}، أو مفعول من أجله. وقيل {أن} في موضع خفض بدل من الضمير في {به}، وهذا متجه.
{ويفسدون في الأرض} يعبدون غير الله ويجورون في الأفعال، إذ هي بحسب شهواتهم، والخاسر الذي نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز، والخسران النقص كان في ميزان أو غيره.
وقوله تعالى: {كيف تكفرون} لفظه الاستفهام وليس به، بل هو تقرير وتوبيخ، أي كيف تكفرون بالله ونعمه عليكم وقدرته هذه؟ و{كيف} في موضع نصب على الحال والعامل فيها {تكفرون}، وتقديرها أجاحدين تكفرون أمنكرين تكفرون؟ و{كيف} مبنية، وخصت بالفتح لخفته، ومن قال إن {كيف} تقرير وتعجب فمعناه إن هذا الأمر إن عن فحقه أن يتعجب منه لغرابته وبعده عن المألوف من شكر المنعم، والواو في قوله {وكنتم} واو الحال، واختلف في ترتيب هاتين الموتتين والحياتين: فقال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد.
فالمعنى كنتم أمواتاً معدومين قبل أن تخلقوا دارسين، كما يقال للشيء الدارس ميت، ثم خلقتم وأخرجتم إلى الدنيا فأحياكم ثم أماتكم الموت المعهود، ثم يحييكم للبعث يوم القيامة.
وقال آخرون: كنتم أمواتاً بكون آدم من طين ميتاً قبل أن يُحيى ثم نفخ فيه الروح فأحياكم بحياة آدم ثم يميتكم ثم يحييكم على ما تقدم.
وقال قتادة: كنتم أمواتاً في أصلاب آبائكم فأخرجتم إلى الدنيا فأحياكم ثم كما تقدم.
وقال غيره: كنتم أمواتاً في الأرحام قبل نفخ الروح ثم أحياكم بالإخراج إلى الدنيا ثم كما تقدم.
وقال ابن زيد: إن الله تعالى أخرج نسم بني آدم أمثال الذر ثم أماتهم بعد ذلك فهو قوله وكنتم أمواتاً، ثم أحياهم بالإخراج إلى الدنيا ثم كما تقدم.
وقال ابن عباس وأبو صالح: كنتم أمواتاً بالموت المعهود ثم أحياكم للسؤال في القبور، ثم أماتكم فيها، ثم أحياكم للبعث.
وروي عن ابن عباس أيضاً أنه قال: وكنتم أمواتاً بالخمول فأحياكم بأن ذكرتم وشرفتم بهذا الدين والنبي الذي جاءكم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والقول الأول هو أولى هذه الأقوال، لأنه الذي لا محيد للكفار عن الإقرار به في أول ترتيبه، ثم إن قوله أولاً {كنتم أمواتاً} وإسناده آخراً الإماتة إليه تبارك وتعالى مما يقوي ذلك القول، وإذا أذعنت نفوس الكفار لكونهم أمواتاً معدومين ثم للإحياء في الدنيا ثم للإماتة فيها قوي عليهم لزوم الإحياء الآخر، وجاء جحدهم له دعوى لا حجة عليها، والضمير في {إليه} عائد على الله تعالى أي إلى ثوابه أو عقابه، وقيل هو عائد على الاحياء، والأول أظهر.
وقرأ جمهور الناس {تُرجَعون} بضم التاء وفتح الجيم.
وقرأ ابن أبي إسحاق وابن محيصن وابن يعمر وسلام والفياض بن غزوان ويعقوب الحضرمي: يَرجع ويَرجعون وتَرجعون بفتح الياء والتاء حيث وقع.
و {خلق} معناه اخترع وأوجد بعد العدم، وقد يقال في الإنسان خلق بعد إنشائه شيئاً، ومنه قول الشاعر: [زهير بن أبي سلمى] [الكامل]
ولأنت تفري ما خلقت وبعض *** القوم يخلق ثم لا يفري
ومنه قول الآخر: [مجزوء الكامل]
من كان يخلق ما يقو *** ل فحيلتي فيه قليله
و {لكم}: معناه للاعتبار، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده من نصب العبر: الإحياء، والإماتة، والخلق، والاستواء إلى السماء وتسويتها.
وقال قوم: بل معنى {لكم} إباحة الأشياء وتمليكها، وهذا قول من يقول إن الأشياء قبل ورود السمع على الإباحة بينته هذه الآية، وخالفهم في هذا التأويل القائلون بالحظر، والقائلون بالوقف، وأكثر القائلين بالحظر استثنوا أشياء اقتضت حالها مع وجود الإنسان الإباحة كالتنفس، والحركة ويرد على القائلين بالحظر كل حظر في القرآن وعلى القائلين بالإباحة كل تحليل في القرآن وإباحة، ويترجح الوقوف إذا قدرنا نازلة لا يوجد فيه سمع ولا تتعلق به.
ومعنى الوقف أنه استنفاد جهد الناظر فيما يحزب من النوازل.
وحكى ابن فورك عن ابن الصائغ أنه قال: لم يخل العقل قط من السمع ولا نازلة إلا وفيها سمع أولها به تعلق أولها حال تستصحب. قال: فينبغي أن يعتمد على هذا، ويغني عن النظر في حظر وإباحة ووقف، و{جميعاً} نصب عل الحال.
وقوله تعالى: {ثم استوى}، {ثم} هنا هي لترتيب الأخبار لا لترتيب الأمر في نفسه، و{استوى}: قال قوم: معناه علا دون تكييف ولا تحديد، هذا اختيار الطبري، والتقدير علا أمره وقدرته وسلطانه.
وقال ابن كيسان: معناه قصد إلى السماء.
قال القاضي أبو محمد: أي بخلقه واختراعه.
وقيل معناه كمل صنعه فيها كما تقول استوى الأمر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قلق.
وحكى الطبري عن قوم: أن المعنى أقبل، وضعفه.
وحكي عن قوم المستوي هو الدخان.
وهذا أيضاً يأباه رصف الكلام، وقيل المعنى استولى كما قال الشاعر الأخطل: [الرجز]
قد استوى بشر على العراقِ *** من غير سيف ودم مهراقِ
وهذا إنما يجيء في قوله تعالى: {على العرش استوى} [طه: 5] والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع النقلة وحلول الحوادث، ويبقى استواء القدرة والسلطان.
{فسواهن} قيل المعنى جعلهن سواء، وقيل سوى سطوحها بالإملاس، و{سبع} نصب على البدل من الضمير، أو على المفعول: ب سوّى، بتقدير حذف الجار من الضمير، كأنه قال فسوّى منهن سبع، وقيل نصب على الحال، وقال سواهن إما على أن السماء جمع، وإما على أنه مفرد على أنه مفرد اسم جنس، فهو دال على الجمع.
وقوله تعالى: {وهو بكل شيء عليم} معناه بالموجودات وتحقق علمه بالمعدومات من آيات أخر، وهذه الآية تقتضي أن الأرض وما فيها خلق قبل السماء، وذلك صحيح، ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء، وبهذا تتفق معاني الآيات: هذه والتي في سورة المؤمن وفي النازعات.


قال معمر بن المثنى: إذ زائدة، والتقدير وقال ربك.
قال أبو إسحاق الزجاج: هذا اجتراء من أبي عبيدة.
قال القاضي أبو محمد: وكذلك رد عليه جميع المفسرين.
وقال الجمهور: ليست بزائدة وإنما هي معلقة بفعل مقدر تقديره واذكر إذ قال، وأيضاً فقوله: {خلق لكم ما في الأرض جميعاً} الآية، يقتضي أن يكون التقدير وابتداء خلقكم إذ قال ربك للملائكة، وإضافة رب إلى محمد صلى الله عليه وسلم ومخاطبته بالكاف تشريف منه له، وإظهار لاختصاصه به، والملائكة واحدها ملك أصله ملاك على وزن مفعل من لاك إذا أرسل، وجمعه ملائكة على وزن مفاعلة.
وقال قوم: أصل ملك مألك، من ألك إذا أرسل، ومنه قول عدي بن زيد: [الرمل]
أبلغ النعمان عني مألكاً *** أنه قد طال حبسي وانتظاري
واللغتان مسموعتان لأك وألك، قلبت فيه الهمزة بعد اللام فجاء وزنه معفل، وجمعه ملائكة، وزنه معافلة.
وقال ابن كيسان: هو من ملك يملك، والهمزة فيه زائدة كما زيدت في شمأل من شمل، فوزنه فعأل، ووزن جمعه فعائلة وقد يأتي في الشعر على أصله كما قال: [الطويل]
فلستِ لأنسيٍّ ولكنْ لمَلأكٍ *** تَنَزَّلَ مَن جَوِّ السماءِ يصُوبُ
وأما في الكلام فسهلت الهمزة وألقيت حركتها على اللام أو على العين في قول ابن كيسان فقيل ملك، والهاء في ملائكة لتأنيث الجموع غير حقيقي، وقيل هي للمبالغة كعلامة ونسابة، والأول أبين.
وقال أبو عبيدة: الهمزة في ملائكة مجتلبة لأن واحدها ملك.
قال القاضي أبو محمد بن عبد الحق رضي الله عنه: فهذا الذي نحا إليه ابن كيسان.
و {جاعل} في هذه الآية بمعنى خالق، ذكره الطبري عن أبي روق، ويقضي بذلك تعديها إلى مفعول واحد.
وقال الحسن وقتادة: جاعل بمعنى فاعل.
وقال ابن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الأرض هنا يعني بها مكة لأن الأرض دحيت من تحتها، ولأنها مقرٌّ من هلك قومه من الأنبياء، وإن قبر نوح وصالح بين المقام والركن».
و {خليفة} معناه من يخلف.
قال ابن عباس: كانت الجن قبل بني آدم في الأرض فأفسدوا وسفكوا الدماء فبعث الله إليهم قبيلاً من الملائكة قتلهم وألحق فلَّهم بجزائر البحار ورؤوس الجبال، وجعل آدم وذريته خليفة.
وقال الحسن: إنما سمى الله بني آدم خليفة لأن كل قرن منهم يخلف الذي قبله، الجيل بعد الجيل.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ففي هذا القول، يحتمل أن تكون بمعنى خالفة وبمعنى مخلوفة.
وقال ابن مسعود: إنما معناه خليفة مني في الحكم بين عبادي بالحق وبأوامري يعني ذلك آدم عليه السلام ومن قام مقامه بعده من ذريته.
وقرأ زيد بن علي {خليقة} بالقاف.
وقوله تعالى: {قالوا أتجعل فيها} الآية، وقد علمنا قطعاً أن الملائكة لا تعلم الغيب ولا تسبق بالقول، وذلك عام في جميع الملائكة، لأن قوله: {لا يسبقونه بالقول} خرج على جهة المدح لهم.
قال القاضي أبو بكر بن الطيب: فهذه العموم، فلا يصح مع هذين الشرطين إلا أن يكون عندهم من إفساد الخليفة في الأرض نبأ ومقدمة.
قال ابن زيد وغيره: إن الله تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكون من ذريته قوم يفسدون ويسفكون الدماء، فقالوا لذلك هذه المقالة.
قال القاضي أبو محمد: فهذا إما على طريق التعجب من استخلاف الله من يعصيه، أو من عصيان من يستخلفه الله في أرضه وينعم عليه بذلك، وإما على طريق الاستعظام والإكبار للفصلين جميعاً، الاستخلاف، والعصيان.
وقال أحمد بن يحيى ثعلب وغيره: إنما كانت الملائكة قد رأت وعلمت ما كان من إفساد الجن وسفكهم الدماء في الأرض فجاء قولهم {أتجعل فيها} الأية، على جهة الاستفهام المحض، هل هذا الخليفة على طريقة من تقدم من الجن أم لا؟
وقال آخرون: كان الله تعالى قد أعلم الملائكة أنه يخلق في الأرض خلقاً يفسدون ويسفكون الدماء، فلما قال لهم بعد ذلك: {إني جاعل} {قالوا أتجعل فيها} الآية، على جهة الاسترشاد والاستعلام هل هذا الخليفة هو الذي كان أعلمهم به قبل أو غيره؟
والسفك صب الدم، هذا عرفه،، وقد يقال سفك كلامه في كذا إذا سرده.
وقرأءة الجمهور بكسر الفاء.
وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة: {ويسفكُ} بضم الفاء.
وقرأ ابن هرمز {ويسفك} بالنصب بواو الصرف كأنه قال: من يجمع أن يفسد وأن يفسك.
وقال المهدوي: هو نصب في جواب الاستفهام.
قال القاضي أبو محمد والأول أحسن.
وقولهم: {ونحن نسبح بحمدك} قال بعض المتأولين: هو على جهة الاستفهام، كأنهم أرادوا {ونحن نسبح بحمدك} الآية، أن نتغير عن هذه الحال.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا يحسن مع القول بالاستفهام المحض في قولهم: {أتجعل}؟.
وقال آخرون: معناه التمدح ووصف حالهم، وذلك جائز لهم كما قال يوسف عليه السلام: {إني حفيظ عليم} [يوسف: 55].
قال القاضي أبو محمد: وهذا يحسن مع التعجب الاستعظام لأن يستخلف الله من يعصيه في قولهم {أتجعل} وعلى هذا أدبهم بقوله تعالى: {إني أعلم ما لا تعلمون}.
وقال قوم: معنى الآية ونحن لو جعلتنا في الأرض واستخلفتنا نسبح بحمدك. وهذا أيضاً حسن مع التعجب والاستعظام في قولهم: {أتجعل}.
ومعنى {نسبح بحمدك} ننزهك عما لا يليق بك وبصفاتك.
وقال ابن عباس وابن مسعود: تسبيح لملائكة صلاتهم لله.
وقال قتادة: تسبيح الملائكة قولهم سبحان الله على عرفه في اللغة.
و {بحمدك} معناه: نخلط التسبيح بالحمد ونصله به، ويحتمل أن يكون قوله {بحمدك} اعتراضاً بين الكلامين، كأنهم قالوا ونحن نسبح ونقدس، ثم اعترضوا على جهة التسليم، أي وأنت المحمود في الهداية إلى ذلك.
{ونقدس لك} قال الضحاك وغيره: معناه نطهر أنفسنا لك ابتغاء مرضاتك، والتقديس التطهير بلا خلاف، ومنه الأرض المقدسة أي المطهرة، ومنه بيت المقدس، ومنه القدس الذي يتطهر به.
وقال آخرون: {ونقدس لك} معناه ونقدسك أي نعظمك ونطهر ذكرك عما لا يليق به. قاله مجاهد وأبو صالح وغيرهما.
وقال قوم: نقدس لك معناه نصلي لك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف.
وقوله تعالى: {إني أعلم ما لا تعلمون} الأظهر أن {أعلم} فعل مستقبل، و{ما} في موضع نصب به، وقيل {أعلم} اسم، و{ما} في موضع خفض بالإضافة، ولا يصح الصرف فيه بإجماع من النحاة، وإنما الخلاف في أفعل إذا سمي به وكان نكرة، فسيبويه والخليل لا يصرفانه، والأخفش يصرفه.
واختلف أهل التأويل في المراد بقوله تعالى: {ما لا تعلمون} فقال ابن عباس: كان إبليس- لعنه الله- قد أعجب ودخله الكبر لما جعله الله خازن السماء الدنيا وشرفه. وقيل: بل لما بعثه الله إلى قتل الجن الذين كانوا أفسدوا في الأرض فهزمهم وقتلهم بجنده، قاله ابن عباس أيضاً، واعتقد أن ذلك لمزية له واستحقب الكفر والمعصية في جانب آدم عليه السلام.
قال: فلما قالت الملائكة {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} وهي لا تعلم أن في نفس إبليس خلاف ذلك. قال الله لهم {إني أعلم ما لا تعلمون} يعني ما في نفس إبليس.
وقال قتادة: لما قالت الملائكة {أتجعل فيها من يفسد فيها} وقد علم الله تعالى أن فيمن يستخلف في الأرض أنبياء وفضلاء وأهل طاعة، قال لهم {إني أعلم ما لا تعلمون} يعني أفعال الفضلاء من بني آدم.
وقوله تعالى: {وعلم} معناه عرف وتعليم آدم هنا عند قوم إلهام علمه ضرورة.
وقال قوم: بل تعليم بقول، فإما بواسطة ملك، أو بتكليم قبل هبوطه الأرض، فلا يشارك موسى- عليه السلام- في خاصته.
وقرأ اليماني: وعُلِّم بضم العين على بناء الفعل للمفعول، آدمُ مرفوعاً.
قال أبو الفتح: هي قراءة يزيد البربري و{آدم} أفعل مشتق من الأدمة وهي حمرة تميل إلى السواد، وجمعه أدم وأوادم كحمر وأحامر، ولا ينصرف بوجه، وقيل {آدم} وزنه فاعل مشتق من أديم الأرض، كأن الملك آدمها وجمعه آدمون وأوادم، ويلزم قائل المقالة صرفه.
وقال الطبري: آدم فعل رباعي سمي به، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله آدم من أديم الأرض كلها فخرجت ذريته على نحو ذلك منهم الأبيض والأسود والأسمر والسهل والحزن والطيب والخبيث».
واختلف المتأولون في قوله: {الأسماء} فقال جمهور الأمة: علمه التسميات وقال قوم: عرض عليه الأشخاص.
قال القاضي أبو محمد والأول أبين، ولفظة-علمه- تعطي ذلك.
ثم اختلف الجمهور في أي الأسماء علمه؟ فقال ابن عباس وقتادة ومجاهد: علمه اسم كل شيء من جميع المخلوقات دقيقها وجليلها.
وقال حميد الشامي: علمه أسماء النجوم فقط.
وقال الربيع بن خثيم: علمه أسماء الملائكة فقط.
وقال عبد الرحمن بن زيد: علمه أسماء ذريته فقط.
وقال الطبري: علمه أسماء ذريته والملائكة، واختار هذا ورجحه بقوله تعالى: {ثم عرضهم على الملائكة}.
وحكى النقاش عن ابن عباس أنه تعالى علمه كلمة واحدة عرف منها جميع الأسماء.
وقال آخرون: علمه أسماء الأجناس، كالجبال والخيل والأودية ونحو ذلك، دون أن يعين ما سمته ذريته منها.
وقال ابن قتيبة: علمه أسماء ما خلق في الأرض.
وقال قوم: علمه الأسماء بلغة واحدة، ثم وقع الاصطلاح من ذريته فيما سواها.
وقال بعضهم: بل علمه الأسماء بكل لغة تكلمت بها ذريته وقد غلا قوم في هذا المعنى حتى حكى ابن جني عن أبي علي الفارسي أنه قال: علم الله تعالى آدم كل شيء، حتى إنه كان يحسن من النحو مثل ما أحسن سيبويه، ونحو هذا من القول الذي هو بين الخطأ من جهات. وقال أكثر العلماء: علمه تعالى منافع كل شيء ولما يصلح.
وقال قوم: عرض عليه الأشخاص عند التعليم.
وقال قوم: بل وصفها له دون عرض أشخاص.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذه كلها احتمالات، قال الناس بها.
وقرا أبي بن كعب: {ثم عرضها}.
وقرأ ابن مسعود: {ثم عرضهن} واختلف المتأولون هل عرض على الملائكة أشخاص الأسماء أو الأسماء دون الأشخاص؟ فقال ابن مسعود وغيره: عرض الأشخاص.
وقال ابن عباس وغيره: عرض الأسماء، فمن قال في الأسماء بعموم كل شيء قال عرضهم أمة أمة ونوعاً نوعاً، ومن قال في الأسماء إنها التسميات استقام على قراء ة أبيّ: {عرضها}، ونقول في قراءة من قرأ {عرضهم}: إن لفظ الأسماء يدل على الأشخاص، فلذلك ساغ أن يقول للأسماء عرضهم.
و {أنبئوني} معناه: أخبروني، والنبأ الخبر، ومنه النبيء.
وقال قوم: يخرج من هذا الأمر بالإنباء تكليف ما لا يطاق، ويتقرر جوازه، لأنه تعالى علم أنهم لا يعملون.
وقال المحققون من أهل التأويل: ليس هذا على جهة التكليف وإنما على جهة التقرير والتوقيف.
وقوله تعالى: {هؤلاء} ظاهره حضور أشخاص، وذلك عند العرض على الملائكة.
وليس في هذه الآية ما يوجب أن الاسم أريد به المسمى كما ذهب إليه مكي والمهدوي، فمن قال إنه تعالى عرض على الملائكة أشخاصاً استقام له مع لفظ {هؤلاء}، ومن قال إنه إنما عرض أسماء فقط جعل الإشارة ب {هؤلاء} إلى أشخاص الأسماء وهي غائبة، إذ قد حضر ما هو منها بسبب، وذلك أسماؤها، وكأنه قال لهم في كل اسم لأي شخص هذا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والذي يظهر أن الله تعالى علم آدم الأسماء وعرض مع ذلك عليه الأجناس أشخاصاً، ثم عرض تلك على الملائكة وسألهم عن تسمياتها التي قد تعلمها آدم، ثم إن آدم قال لهم هذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا، و{هؤلاء} لفظ مبني على الكسر والقصر فيه لغة تميم وبعض قيس وأسد، قال الأعشى: [الخفيف].
هؤلا ثم هؤلا كلا أعطي *** تَ نعالاً محذوة بنعال
و {كنتم} في موضع الجزم بالشرط، والجواب عند سيبويه فيما قبله، وعند المبرد محذوف، والتقدير: إن كنتم صادقين فأنبئوني.
وقال ابن مسعود وابن عباس وناس من أصحاب النبي صلى عليه السلام، معنى الآية: {إن كنتم صادقين} في أن الخليفة يفسد ويسفك.
وقال آخرون: {صادقين} في إني إن استخلفتكم سبحتم بحمدي وقدستم لي.
وقال الحسن وقتادة: روي أن الملائكة قالت حين خلق الله آدم: ليخلق ربنا ما شاء فلن يخلق خلقاً أعلم منا ولا أكرم عليه، فأراد الله تعالى أن يريهم من علم آدم وكرامته خلاف ما ظنوا فالمعنى إن كنتم صادقين في دعواكم العلم.
وقال قوم: معنى الآية {إن كنتم صادقين} في جواب السؤال عالمين بالأسماء. {قالوا}: ولذلك لم يسغ للملائكة الاجتهاد وقالوا: {سبحانك} حكاه النقاش. قال: ولو لم يشترط عليهم الصدق في الإنباء لجاز لهم الاجتهاد كما جاز للذي أماته الله مائة عام حين قال له {كم لبثت؟} ولم يشترط عليه الإصابة. فقال، ولم يصب فلم يعنف.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا كله محتمل.
وحكى الطبري أن بعض المفسرين قال: معنى {إن كنتم} إذ كنتم.
قال الطبري: وهذا خطأ. وإن قال قائل ما الحكمة في قول الله تعالى للملائكة {إني جاعل} الآية، قيل: هذا منه امتحان لهم واختبار ليقع منهم ما وقع ويؤدبهم تعالى من تعليم آدم وتكريمه بما أدب.
و {سبحانك} معناه: تنزيهاً لك وتبرئة أن يعلم أحد من علمك إلا ما علمته، و{سبحانك} نصب على المصدر.
وقال الكسائي: نصبه على أنه منادى مضاف.
قال الزهراوي: موضع {ما} من قولهم {ما علمتنا} نصب ب {علمتنا}، وخبر التبرئة في {لنا}، ويحتمل أن يكون موضع {ما} رفعاً على أنه بدل من خبر التبرئة، كما تقول لا إله إلا الله أي لا إله في الوجود إلا الله، و{أنت} في موضع نصب تأكيد للضمير في {إنك}، أو في موضع رفع على الابتداء.
و {العليم} خبره، والجملة خبر إن، أو فاصلة لا موضع لها من الإعراب. و{العليم} معناه: العالم، ويزيد عليه معنى من المبالغة والتكثير من المعلومات في حق الله عز وجل.
و {الحكيم} معناه الحاكم، وبينهما مزية المبالغة، وقيل: معناه المحكم كما قال عمرو بن معديكرب: [الوافر].
أمن ريحانة الداعي السميع *** أي المسمع، ويجيء {الحكيم} على هذا من صفات الفعل.
وقال قوم: {الحكيم} المانع من الفساد، ومنه حكمة الفرس مانعته، ومنه قول جرير: [الكامل].
أبني حنيفةَ أحكمُوا سفهاءكُمْ *** إني أخافُ عليكمُ أن أغضبا


{أنبئهم} معناه أخبرهم، وهو فعل يتعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف جر وقد يحذف حرف الجر أحياناً، تقول نبئت زيداً.
قال سيبويه: معناه نبئت عن زيد. والضمير في {أنبئهم} عائد على الملائكة بإجماع، والضمير في أسمائهم مختلف فيه حسب الاختلاف في الأسماء التي علمها آدم.
قال أبو علي: كلهم قرأ أنبئهُم بالهمز وضم الهاء، إلا ما روي عن ابن عامر، أنبئِهم بالهمز وكسر الهاء، وكذلك روى بعض المكيين عن ابن كثير، وذلك على إتباع كسرة الهاء لكسرة الباء، وإن حجز الساكن فحجزه لا يعتد به.
قال أبو عمرو الداني: وقرأ الحسن والأعرج: أنبيهم بغير همز.
قال ابن جني: وقرأ الحسن {أنبهِم}، على وزن أعطهِم، وقد روي عنه، {انبيهم} بغيرهمز.
قال أبو عمرو: وقد روي مثل ذلك عن ابن كثير من طريق القواس.
قال أبو الفتح: أما قراءة الحسن،{أنبهم} كأعطهم فعلى إبدال الهمزة ياء، على أنك تقول أنبيت كأعطيت، وهذا ضعيف في اللغة، لأنه بدل لا تخفيف والبدل عندنا لا يجوز إلا في ضرورة شعر.
قال بعض العلماء: إن في قوله تعالى: {فلما أنبأهم} نبوة لآدم عليه السلام، إذ أمره الله أن ينبئ الملائكة بما ليس عندهم من علم الله عز وجل.
ويجوز فتح الياء من إني وتسكينها.
قال الكسائي: رأيت العرب إذا لقيت عندهم الياء همزه فتحوها.
قال أبو علي: كان أبو عمرو يفتح ياء الإضافة المكسور ما قبلها عند الهمزة المفتوحة والمكسورة، إذا كانت متصلة باسم، أو بفعل، ما لم يطل الحرف فإنه يثقل فتحها، نحو قوله تعالى: {ولا تفتني ألا} [التوبة: 49] وقوله تعالى: {فاذكروني أذكركم} [البقرة: 152]، والذي يخف، {إني أرى} [الأنفال: 48، يوسف: 43، الصافات: 102] و{أجري إلا على الله} [يونس: 72، هود: 29، سبأ: 47].
وقوله تعالى: {أعلم غيب السموات والأرض} معناه: ما غاب عنكم، لأن الله لا غيب عنده من معلوماته وما في موضع نصب بأعلم.
قال المهدوي: ويجوز أن يكون قوله {أعلم} اسماً بمعنى التفضيل في العلم، فتكون {ما} في موضع خفض بالإضافة.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: فإذا قدر الأول اسماً فلا بد بعده من إضمار فعل ينصب {غيب}، تقديره إني أعلم من كل أعلم غيب، وكونها في الموضعين فعلاً مضارعاً أخصر وأبلغ.
واختلف المفسرون في قوله تعالى: {ما تبدون وما كنتم تكتمون} فقالت طائفة: ذلك على معنى العموم في معرفة أسرارهم وظواهرهم وبواطنهم أجمع.
وحكى مكي أن المراد بقول {ما تبدون} قولهم: {أتجعل فيها} الآية.
وحكى المهدوي أن {ما تبدون} قولهم: ليخلق ربنا ما شاء فلن يخلق أعلم منا ولا أكرم عليه، فجعل هذا مما أبدوه لما قالوه.
وقال الزهراوي: ما أبدوه هو بدارهم بالسجود لآدم.
واختلف في المكتوم فقال ابن عباس وابن مسعود: المراد ما كتمه إبليس في نفسه من الكبر والكفر، ويتوجه قوله {تكتمون} للجماعة والكاتم واحد في هذا القول على تجوز العرب واتساعها، كما يقال لقوم قد جنى سفيه منهم: أنتم فعلتم كذا، أي منكم فاعله.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا مع قصد تعنيف، ومنه قوله تعالى: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون} [الحجرات: 4] وإنما ناداه منهم عيينة، وقيل الأقرع، وقال قتادة: المكتوم هو ما أسره بعضهم إلى بعض من قولهم: ليخلق ربنا ما شاء، فجعل هذا فيما كتموه لما أسروه،- {وإذ} من قوله: {وإذ قلنا} معطوف على {إذ} المتقدمة.
وقول الله تعالى وخطابه للملائكة متقرر قديم في الأزل، بشرط وجودهم وفهمهم، وهذا هو الباب كله في أوامر الله سبحانه ونواهيه ومخاطباته و{قلنا} كناية العظيم عن نفسه بلفظ الجمع، وقوله للملائكة عموم فيهم.
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: {للملائكةُ اسجدوا} برفع تاء للملائكة إتباعاً لضمة ثالث المستقبل.
قال أبو علي: وهذا خطأ.
وقال الزجاج: أبو جعفر من رؤساء القرأة ولكنه غلط في هذا.
قال أبو الفتح: لأن الملائكة في موضع جر فالتاء مكسورة كسرة إعراب، وهذا الذي ذهب إليه أبو جعفر إنما يجوز إذا كان ما قبل الهمزة حرفاً ساكناً صحيحاً، نحو قوله تعالى: {وقالت اخرج عليهن} [يوسف: 31] والسجود في كلام العرب الخضوع والتذلل، ومنه قول الشاعر [زيد الخيل]: [الطويل]
ترى الأُكْمَ فيهِ سُجَّداً للحوافرِ *** وغايته وضع الوجه بالأرض، والجمهور على أن سجود الملائكة لآدم إيماء وخضوع، ذكره النقاش وغيره، ولا تدفع الآية أن يكونوا بلغوا غاية السجود.
قوله تعالى: {فقعوا له ساجدين} [الحجر: 29] لا دليل فيه لأن الجاثي على ركبتيه واقع.
واختلف في حال السجود لآدم، فقال ابن عباس: تعبدهم الله بالسجود لآدم، والعبادة في ذلك لله.
وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس: إنما كان سجود تحية كسجود أبوي يوسف عليه السلام، لا سجود عبادة.
وقال الشعبي: إنما كان آدم كالقبلة، ومعنى لآدم إلى آدم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي هذه الوجوه كلها كرامة لآدم عليه السلام.
وحكى النقاش عن مقاتل: أن الله إنما أمر الملائكة بالسجود لآدم قبل أن يخلقه.
قال: والقرآن يرد على هذا القول.
وقال قوم: سجود الملائكة كان مرتين، والإجماع يرد هذا.
وقوله تعالى: {إلا إبليس} نصب على الاستثناء المتصل، لأنه من الملائكة على قول الجمهور، وهو ظاهر الآية، وكان خازناً وملكاً على سماء الدنيا والأرض، والأرض، واسمه عزازيل، قاله ابن عباس.
وقال ابن زيد والحسن: هو أبو الجن كما أن آدم أبو البشر، ولم يكن قط ملكاً.
وقد روي نحوه عن ابن عباس أيضاً، قال: واسمه الحارث.
وقال شهر بن حوشب: كان من الجن الذين كانوا في الأرض وقاتلتهم الملائكة فسبوه صغيراً، وتعبد وخوطب معها، وحكاه الطبري عن ابن مسعود: والاستثناء على هذه الأقوال منقطع، واحتج بعض أصحاب هذا القول بأن الله تعالى قال صفة للملائكة: {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون}.
ورجح الطبري قول من قال: {إن إبليس كان من الملائكة}. وقال: ليس في خلقه من نار ولا في تركيب الشهوة والنسل فيه حين غضب عليه ما يدفع أنه كان من الملائكة.
وقوله عز وجل: {كان من الجن ففسق عن أمر ربه} [الكهف: 50] يتخرج على أنه عمل عملهم فكان منهم في هذا، أو على أن الملائكة قد تسمى جناً لاستتارها، قال تعالى: {وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً} [الصافات: 158].
وقال الأعشى في ذكر سليمان عليه السلام: [الطويل]
وسخّر من جن الملائك تسعة *** قياماً لديه يعملون بلا أجْرِ
أو على أن يكون نسبهم إلى الجنة كما ينسب إلى البصرة بصريّ، لما كان خازناً عليها، و{إبليس} لا ينصرف لأنه اسم أعجمي معرف.
قال الزجاج: ووزنه فِعْليل.
وقال ابن عباس والسّدي وأبو عبيدة وغيرهم: هو مشتق من أبلس إذا أبعد عن الخير، ووزنه على هذا إفعيل ولم تصرفه هذه الفرقة لشذوذه، وأجروه مجرى إسحاق من أسحقه الله، وأيوب من آب يؤوب، مثل قيوم من قام يقوم، ولما لم تصرف هذه-ولها وجه من الاشتقاق- كذلك لم يصرف هذا وإن توجه اشتقاقه لقلته وشذوذه، ومن هذا المعنى قول الشاعر العجاج: [الرجز].
يا صاح هل تعرف رسماً مكرسا *** قال نعمْ أعرفه وأبلسا
أي تغير وبعد عن العمار والإنس به ومثله قول الآخر: [الرجز]
وفي الوجوه صفرة وإبلاس ***
ومنه قوله تعالى: {فإذا هم مبلسون} [الأنعام: 44] أي يائسون عن الخير مبعدون منه فيما يرون و{أبى} معناه امتنع من فعل ما أمر به، و{استكبر} دخل في الكبرياء، والإباية مقدمة على الاستكبار في ظهورهما عليه، والاستكبار والأنفة مقدمة في معتقده.
وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال: بلغني أن أول معصية كانت الحسد والكبر والشح، حسد إبليس آدم وتكبر، وشح آدم في آكله من شجرة قد نهي عن قربها.
حكى المهدوي عن فرقة أن معنى {وكان من الكافرين}: وصار من الكافرين.
وقال ابن فورك: وهذا خطأ ترده الأصول.
وقالت فرقة: قد كان تقدم قبل من الجن من كفر فشبهه الله بهم وجعله منهم، لما فعل في الكفر فعلهم.
وذكر الطبري عن أبي العالية أنه كان يقول: وكان من الكافرين معناه: من العاصين.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وتلك معصية كفر لأنها عن معتقد فاسد صدرت.
وروي أن الله تعالى خلق خلقاً وأمرهم بالسجود لآدم فعصوا فأحرقهم بالنار، ثم خلق آخرين وأمرهم بذلك فعصوا فأحرقهم، ثم خلق الملائكة فأمرهم بذلك فسجدوا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والإسناد في مثل هذا غير وثيق.
وقال جمهور المتأولين: معنى {وكان من الكافرين} أي في علم الله تعالى أنه سيكفر، لأن الكافر حقيقة والمؤمن حقيقة هو الذي قد علم الله منه الموافاة.
وذهب الطبري: إلى أن الله أراد بقصة إبليس تقريع أشباهه من بني آدم وهم اليهود الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، مع علمهم بنبوته ومع تقدم نعم الله عليهم وعلى أسلافهم، واختلف هل كفر إبليس جهلاً أو عناداً على قولين بين أهل السنة، ولا خلاف أنه كان عالماً بالله قبل كفره، فمن قال إنه كفر جهلاً: قال: إنه سلب العلم عند كفره. ومن قال كفر عناداً قال: كفر ومعه علمه، قال: والكفر عناداً مع بقاء العلم مستبعد، إلا أنه عندي جائز لا يستحيل مع خذل الله لمن شاء. ولا خلاف أن الله تعالى أخرج إبليس عند كفره وأبعده عن الجنة، وبعد إخراجه قال لآدم اسكن.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9